الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي: هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى وترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما بحرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزًا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذا سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القران سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قران حتى ينبهه جبريل عليه السلام لاسيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له أن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترتجى أيضًا لاسيما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلق بقليل القران وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى: {فَلْيَأْتُواْ بِحديث مّثْلِهِ} [الطور: 34] والقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب.وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لابد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لَكِن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء عارفون بالغث والسمين من الإخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودًا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودًا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري أن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعًا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخه سبحانه وتعالى لاسيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القران:{لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] والمراد بالباطل ما كان باطلًا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلى الله عليه وسلم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد {لاَّ يَأْتِيهِ} استمرار النفي لا نفي الاستمرار.وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] فجىء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقه إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القران ما فيه.وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القران من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زمانًا يسيرًا لا يخلو عن نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لَكِنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يتقضيه ذلك الاعتناء، ثم إن قيل: بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرأنًا في اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين زمانًا طويلًا والقول بذلك من الشناعة بمكان، وقال جل وعلا: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} [النجم: 4] والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالدين، ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: كان جبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة والسلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضًا، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضًا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلى الله عليه وسلم حين سجد آخر النجم، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {والنجم} [النجم: 1] فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخًا من قريش أخذ كفًا من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا».وروى البخاري أيضًا والترمذي عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» إلى غير ذلك، وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى وَثَمُودَ فَمَا أبقى وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هم أَظْلَمَ وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها مَا غشى} [النجم: 50- 54] إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحًا به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الاتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: كيف وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] بناءً على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى} [النجم: 21] وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثًا والحب للشيء يعمي ويصم، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين.واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرًا بعد سماع قوله تعالى: {إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} [النجم: 23] فكان ينبغي التنبيه بعد السجود، ولعلهم أرجعوا ضمير {هِىَ} للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع.واعترض على قوله في الجواب الخامس: إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة والسلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة والسلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد.وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام، الأول: ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلى الله عليه وسلم بعد علمه بالمبلغ باية قاطعة والمراد بها كما قال ابن ملك: العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقران من هذا القبيل، والثاني: ما وضح له صلى الله عليه وسلم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها» الحديث وهذا يسمى خاطر الملك، والثالث: ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} [النساء: 105] وكل ذلك حجة مطلقًا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره، وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال، وهو ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلى الله عليه وسلم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة والسلام قرآنًا ووحيا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علم ذلك علمًا ضروريًّا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلًا، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة.ويجوز أن يقال: إنه أراد أنه إذا وقع الاشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة والسلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأن احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوتب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] الآية، وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة؛ 43] وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى: {وَإِذَا تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِى في نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37] ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء مشروط بالتمني أو في وقته بناءً على الخلاف في أن {إِذَا} للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت.ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لاسيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلى الله عليه وسلم في كل وحي متوقفًا غير جازم بأن وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه.واعترض على قوله في الجواب أيضًا: إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق الخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول: خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر قوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني حقًّا فإن الشيطان لا يتمثل بي» والظاهر أنه لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم أصلًا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم من ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل منامًا فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولى، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل.وقالت الصوفية في ذلك: إن المصطفى صلى الله عليه وسلم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقًا وتحققًا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكمًا وسلطنة من صفات الحق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلى الله عليه وسلم عن أن يظهر بها شيطان اهـ. ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلى الله عليه وسلم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو منامًا لأحد من أمته مخلصًا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر.وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاد ما ليس قرأنًا للتلبيس الناشيء عن أرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه.وأورد على قوله في الجواب السابع: إنه لا إخلال بالوثوق بالقران عند الذين أوتوا العلم والذي آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلًا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قران فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع.وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتفاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضًا ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب.ولا يجدي نفعًا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلًا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلى الله عليه وسلم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق.وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلى الله عليه وسلم نطق بما نطق عمدًا معتقدًا للتلبيس أنه وحي حاملًا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها.وفي شرح الجوهرة الأوسط أن حديث تلك الغرانيق الخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تأويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة والسلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] وكان منه عليه الصلاة والسلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكيًّا صوته صلى الله عليه وسلم فظن أنه من قوله عليه الصلاة والسلام وليس به انتهى، والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبرًا وأخذت العناية بيديه، وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادًا أنه صلى الله عليه وسلم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصًا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا} [الكهف: 5]، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرأنًا منزلًا في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بها نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعنى قوله تعالى: {وما أرسلنا} [الحج: 52] الخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه، وقيل: هو بعيد صدقوا لَكِن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم.هذا وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ {وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ وَلاَ مُّحْدَثٍ} فنسخ {وَلاَ مُّحْدَثٍ} والمحدثون صاحب يس ولقمان ومؤمن من آل فرعون وصاحب موسى عليه السلام. اهـ.
|